بقلم بول سيلز
في 12 أيلول/سبتمبر 1981، في وسط مدينة تيغوسيغالبا، اختُطف مانفريدو فيلاسكيس في وضح النهار، على يد رجال مدجّجين بالسلاح في لباس مدنيّ يقودون سيّارة فورد بيضاء لا تحمل لوحة تسجيل. ولم يره أحد منذ ذلك الحين.
كان مانفريدو طالبًا منخرطًا في "نشاطات" ضمن الاتحاد الوطني للطلبة والتي اعتبرت الطغمة الحاكمة في هندوراس أنّها تشكّل خطرًا على "الأمن القومي". إنّ ما حلّ بمانفريدو بالتحديد لن ينجل أبدًا، لكّن شهودًا أفادوا أنّه من شبه الأكيد أنّه قد تعرّض للتعذيب وثمّ القتل على يد قوى الأمن التي قبضت عليه. بعد مرور سبع سنوات، وفي حكم تاريخي هو الأوّل من نوعه، وجدت محكمة الأميركتين لحقوق الإنسان حكومة هندوراس مسؤولة عن اختفاء فيلاسكيس. إلاّ أنّ الإختفاء القسري لا يزال حتّى يومنا هذا يمُارس بموافقة الدولة في بلدان عديدة من العالم.
لكنّ ديكتاتوريّات أميركا اللاتينيّة ليست الوحيدة التي ترزح تحت الأعباء المتّأتية عن "منافع" مثل هذه النهُج. ذلك أنّ ردّ نظام الأسد على المطالبات بالإصلاح والديمقراطيّة في سوريا تضمّن العديد من حوادث الإختفاء القسري. ومن الأمثلة على هذه الممارسات أيضًا الاعتقال المنهجي والمطوّل الّذي اعتمد تحت حكم مبارك في مصر، وبن علي في تونس، والقذّافي في ليبيا. وتحت قناع "التسليم الاستثنائي" المتّسم بالمغالاة والّذي يذكّر بروايات جورج أورويل، ضلعت الولايات المتّحدة الأميركيّة والعديد من حلفائها في تنفيذ ممارسات لا تقلّ عن كونها إخفاءات قسريّة أو في التواطؤ على تنفيذها.
يبدو واضحًا أنّ السبب وراء ممارسة "عمليّات التسليم الاستثنائي" يتمثّل بإخضاع هؤلاء المختفين إلى معاملة يحظّرها القانون تمامًا في الولايات المتّحدة، وهو ما لا يمكن الدفاع عنه من الناحية الأخلاقيّة. أمّا من الناحية الاستراتيجية، فهو ايضًا مناف للمنطق: فما عساه يكون أكثر تدميرًا للذات في معركة للدفاع عن القيم من تقويضها بالكامل في وجه الاعتداء؟ وفي حين أن إدارة أوباما قد اتّخذت خطوات للحدّ من هذه الممارسة، فقد استمرّت في بعض أوجهها ولم تجر أي محاولة لمعالجة الإرتكابات الماضية.
من الممكن للناس جميعًا على اختلافاتهم ارتكاب الإختفاءات القسريّة، لكنّ اهتمامنا يجب أنّ ينصبّ قبل كلّ شيء على الجهات الحكوميّة الفاعلة. فمن الصعب أن نتخيل ضربًا من الاستغلال أكثر جبانة أو هولاً لسلطة الدولة من تقويض أهمّ الحقوق الأساسيّة للفرد عبر إخفائه. وللتوضيح، فإنّ الإختفاء يشكّل تكتيكًا إرهابيًّا – إنّه تكتيك يندرج في خانة الإرهاب. فطرق تنفيذه قد تتخذ أشكالا أكثر تطوّرًا، لكنّ وقوف الدولة وراءه يجب أن يستدعي مزيدًا من الشجب لا أن يخفف منه.
ولا شكّ أنّ أهداف الإختفاء كتكتيك متعدّدة: فهو يمَكّن الدولة من التخلّص من خصومها، الحقيقيين منهم والخياليّين، وكأنّها تقول لهم: "لستم بشيء، هويّتكم ليست بشيء، وجودكم ليس بشيء"، فالإختفاء يُنزل بالمختفين وحشيّة بالغة بغية تجريع كلّ الآخرين مقدارًا إضافيّا من الرعب؛ كما يثقل كاهل أهلهم مدى الحياة، ويحكم عليهم بالعيش في حيرة الغموض المملوء بالخوف. فمن الصعب أن نفكّر في أي ممارسة مخططة بعناية تنجح إلى هذا الحدّ في تجسيد قدرة أهل السلطة على الحطّ من أنفسهم وتجريد ضحاياهم من إنسانيّتهم.
لقد حاول أهل مانفريدو فيلاسكيس إيجاد مكانه منذ اليوم الّذي اختُطِف فيه، لكنّ النظام القانوني في بلاده هزئ بحقوقه وحقوق عائلته. ولم يستطيعوا إيجاد شيء.
يمكن القول إنّ قرار محكمة الأميركتين لحقوق الإنسان في قضيّة "فيلاسكيس رودريغز" البالغة الأثر، الصادر بعد مرور سبع سنوات على اختفاء مانفريدو، هو أحد أهمّ قرارات المحاكم المتعلّقة بحقوق الإنسان. فهو قد أرسى معايير مهمّة حول ما يتعيّن على سلطات الدولة القيام به لضمان وقف ممارسة الإختفاءات القسريّة، وما على الدول فعله لمعالجة مثل هذه الانتهاكات.
وفي صلب هذه الإجراءات تمّ تحديد الحقّ في معرفة الحقيقة – أيّ حقّ الضحيّة أو أقارب الضحيّة بمعرفة ما حصل والسبب في حصوله؛ كما الحقّ بالإنصاف – أي أن يواجه المسؤولون عن ارتكاب هذه الانتهاكات وسيّما منها تنظيم الممارسة المنهجيّة للإخفاء القسري العدالة، وأن يتمّ التعويض بشكل واف عن الضحايا. تشكّل قضيّة مانفريدو من نواح عديدة أوّل دعوى قضائيّة تحدد الأفكار القانونية التي تمخّض عنها ما يُعرف اليوم بالعدالة الانتقاليّة – أي الطرق التي يتعيّن من خلالها معالجة حقوق الضحايا في أعقاب وقوع انتهاكات جسيمة.
في حين أنّ ممارسة الإختفاء القسري كتكتيك تعتمده الدولة ترجع إلى تاريخ بعيد، فهي قد دخلت دائرة الضوء خلال الثمانينيات لمّا بدأت الأرجنتين ومن ثمّ منظومة الأميركتين لحقوق الإنسان بمحاسبة المسؤولين عنها. بالتالي، تمّ تعيين الثلاثين من آب/أغسطس اليوم الدولي لضحايا الاختفاء القسري في الأمم المتّحدة. أيضًا، نذكر من أهمّ التطوّرات في مجال حماية حقوق الإنسان في السنوات الأخيرة الاتفاقية الدوليّة لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري التي دخلت حيّز التنفيذ في 23 كانون الأوّل/ديسمبر 2012.
ويعتبر ذلك تجلّيات حسيّة لتطوّرات مهمّة، نأمل أن يساعد التشديد عليها في التوصّل إلى اجتثاث هذه الممارسة.
الرسالة الأساسيّة التي يجب إيصالها اليوم هي أنّه يجب وضع حدّ للإخفاء القسري، وأنّ هذه الممارسة غير مقبولة في أيّ ظرف من الظروف. إلاّ أنّ هذا ليس كافيًا، إذ تجب معالجة إرث الإختفاءات القسريّة، ويجب أن يكون لعائلات المخفيين وصول إلى الحقائق، وأن يعرفوا أين أُخذ أحباؤهم، وما جرى لهم، ولماذا، كما يجب محاسبة المسؤولين. فما من شيء قادر على تشجيع مثل هذا العمل غير الانساني أكثر من الإفلات من العقاب.
لم يظهر مانفريدو فيلاسكيس قط بعد أن قبض عليه خاطفوه الهندوراسيون، وقد يعود التأثير الّذي كان لقضيّته في مجال حماية الأصوات المعارضة في العالم – أمستحبّة كانت أو مرفوضة- بشيء من العزاء الفاتر على أهله. ولا شكّ أنّه قد بات من الأصعب اليوم على الدول إساءة أمانة السلطة بهذه الفظاظة. فإنّ الإختفاء القسري هو جريمة ضدّ الإنسانيّة، والقرارات التي يتّخذها السياسيون والمسؤولون للإيذان بمثل هذه الممارسات في مختلف البلدان لا يمكن تبريرها قانونيًّا ولا أخلاقيًّا، إذ تتوجب محاسبتهم وإظهارهم على حقيقتهم: كأعداء للمجتمع المتحضّر.
بول سيلز هو نائب رئيس المركز الدولي للعدالة الانتقالية