في مساء معتدل في نوفمبر الماضي، أخذت ثلاثة أمهات مقاعدهن قِبل هيئة الحقيقة والكرامة في تونس، حاملات صور مُؤطرة لأبنائهن بين أذرعهنّ. كان أبنائهن قد قُتلوا قبل خمس سنوات خلال ثورة الياسمين، وهي انتفاضة شعبية أنهت ديكتاتورية زين العابدين بن علي في عام 2011.
وبينما استعدت النساء الثلاث للإدلاء بشهادتهنّ أمام هيئة الحقيقة والكرامة، اجتمعن في مقدمة غرفة أنيقة، كانت في السابق جزءًا من ناد خاص لزوجة الديكتاتور وصديقاتها. في الساعات التي تلت، تمّت إعادة كتابة تاريخ المبنى - بل مستقبل تونس - من خلال قصص الأمهات.
حَملت قصصهنّ لوعة الخسارة؛ من معاناة وعطش إلى العدالة. ولكن القِصص كانت مُضمّنة كذلك بآمال النساء واستعدادهنّ للتسامح وحلمهن بالوحدة وإرثٍ باقٍ عن أبنائهن. وبينما تواصلت الشهادة، ارتفع عددُ المشاهدين وانتباههم من أي وقتٍ مضى؛ ازدحموا داخل الغرفة، وتجمعوا حَول أجهزة التلفزيون، وقام عشرات الآلاف بالاستماع إلى الجلسات على أجهزتهم. تقول ابتهال عبد اللطيف، أحد أعضاء هيئة الحقيقة والكرامة أنّ التأثير كان زلزاليّ. وأضافت "لقد كان زلزالًا للبلاد. ليس زلزالًا يُدمر، بل زلزالاً يبني". هذه هي قوة جلسات الاستماع العامة المُحتملة.
لمعالجة إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوقِ الإنسان وكشف الحقيقة عن الماضي المُؤلم، لجأت بعضُ البلدان إلى آليات غير قضائية مثل لجانِ الحقيقة. من خلال التحقيقات وجمعِ الشهادات والبحوث الأرشيفية، لَعبت هذه الهيئات دورًا رئيسيًا في إنشاء سجلٍ رسمي عن الماضي في البلدان التي دمّرها القمع والصراع من الأرجنتين إلى جنوب أفريقيا، ومن المغرب إلى كندا. تقومُ لجان تقصي الحقائق، من خلال تركيزها على شهادة ضحايا الفظائع، بالاعتراف وإثبات معاناة ونضال أكثر الأشخاص تضرراً.
وبمناسبة اليوم العالمي للحق في معرفة الحقيقة، نُسلط الضوء على أحد أقوى الوسائل التي يمكن بها للجان الحقيقة إعادة التأكيد على كرامة الضحايا: جلساتُ الاستماعِ العلنية. هذه الجلسات العامة تحملُ فرصة مُمكنة للتنفيس للضحايا وأسرهم، وكذلك أيضاً للجمهور بشكلٍ عامٍ من خلال توليد التضامن والتعاطف مع معاناة الآخرين في المجتمعات المستقطبة بشدة ومَرْضوحة بسبب الفظائع والإنكار، كما حدث في سياقاتٍ متنوعة مثل جنوب أفريقيا حيث أُنشئت لجنة لتقصي الحقائق من أجل وضع حد للفصل العنصري، إلى بيرو حيثما استمر الصراع المسلّح والحُكم القمعيّ المُطلق لعقدين من الزمان، وإلى كندا حيث أُجبرت الشعوب الأصلية قسراً على الاستيعاب على مدى عقود.
تَهدفُ جلسات الاستماع العلنية إلى تزويد الضحايا بمنصّة عامة يتم من خلالها الاستماع إلى معاناتهم، التي غالباً ما تُنكر ولا يتم الاعترافُ بها، والإقرار بها من قِبل اللجنة نفسها والمُجتمع ككل. أحيانًا تُستخدم أيضًا كوسيلة للإذاعة العلنية لشهاداتِ الخبراء المختصين والشخصيات السياسية الهامة.
هذه الآثار يَقدرُ لها أن تكون مُتعددة ومعزّزة. يستمّدُ الضحايا رِضىً من تأكيد كرامتهم في مَحفٍل عام. تُرَسّخ اللجان شرعيتها العامة في جمهور عادة ما يكون مُستقطباً. قد تجدها قطاعات المجتمع تجاهلت ألم الضحايا فرصةً لتجديد إحساس بالتضامن، مما يجعلها مستعدة لمناقشة ماضيها الذي تم إنكاره.
من خلال جلساتِ الاستماع العامة، تُتاح للجمهور فرصةً أن يرى بنفسه كيفية عمل اللجنة. وبذلك، يترك عمل اللجنة المجال المُجرّد للأجندات السياسية والتغطية الإعلامية المستقطبة ليدخل بيوت الناس الحميمية، مقلصاً من مساحة الإنكار ومرشداً البلاد لمواجهة حقائقها الصعبة.
لم تكن جلسات الاستماع العامة سمةً منتظمة للجان الحقيقة المُبكرة التي بدأت في أمريكا اللاتينية في الثمانينيات. وكثيراً ما كانت هناك أسباب وجيهة لذلك: فالسرّية توفر أرضية خصبة لاعترافِ الجناة في بعض الحالات، وفي حالات أخرى تغلبُ المخاوف من الانتقام فوائد العلنية.
جنوب أفريقيا: نقطة تحول
مَثّل قرار لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا بعقد سلسلة من الجلسات العامة في جميع أنحاء البلد نقطةَ تحّول في التصوّر الدوليّ لجلسات الاستماع المفتوحة.
في الفترة ما بين نيسان / أبريل 1996 وحزيران / يونيه 1997، عقدت لجنة الحقيقة والمصالحة 83 جلسة استماع في أماكن عامة مثل قاعات المدينة والمدارس والكنائس، مع إتاحة الفرصة للضحايا والجناة على السواء للتحدث. وإجمالاً، شهدَ ما يقرب من 2000 ضحية، ووصلت شهاداتهم إلى آلافٍ من خلال بث خاص على القنوات التلفزيونية والإذاعية الرئيسية في البلد التي تُغطي جميع سكان جنوب أفريقيا تقريباً.
قالت كاترين كول، مؤلفة كتاب "صدى شهادات: لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا في الفن والإعلام": "بشكل تجريبي، أعطى كل من التلفاز والإذاعة جمهورهم فرصة وصول دَسِمة إلى أولئك الذين أدلوا بشهاداتهم". مضيفة: "سواء كان هذا الوصول من خلال الأبعاد الصوتية ووتيرة الصوت واللهاث والصمت على موجات الراديو، أو من خلال العلامات البصرية المضافة مثل لغة الجسد والملابس وتعبيرات الوجه التي تُنقل من خلال التلفاز، فقد أظهر بث وسائل الإعلام أنّ الأفراد كانوا في صميم جلسات الاستماع العامة ... شَمل ذلك الأشخاص الذين تم تصنيفهم كضحايا يقدمون شهادات، أو جناة يطلبون العفو، أو متفرجين في القاعة، أو مفوضين يرأسون الإجراءات. وَفّرت وسائل الإعلام طابعاً شخصياً ومُتفرداً للقصص التي قدمتها اللجنة، وهي قصص يمكن أن تكون في مجملها مُخدرة العقل لأجل الضَخَامَة والمستوى والوحشية المَحضة".
يعتقدُ بعض المراقبين أن جلسات الاستماع العامة في جنوب أفريقيا يُنظر إليها أيضاً على أنها أداة لبناء الأمة، تُرسل نية مُجتمعية مشتركة للوصول إلى مواطني جنوب أفريقيا -الجناة مثلما الضحايا- لأجل إقامة مستقبل مُوّحد. رافقت تقييمات مماثلة جلسات الاستماع للجان الحقيقة في عدة بلدان أفريقية أخرى، وكذلك في المغرب و بيرو.
بيرو: تحويل شهادات الضحايا إلى قصةٍ وطنية
في بيرو، دَمّر النزاع بين الحكومة والمتمردين اليساريين من عام 1980 حتى عام 2000 سكان الريف الذين لم يتم الإبلاغ عن معاناتهم بشكل صحيح - ناهيك عن الاعتراف - من جانب مسؤولي الدولة أو المراكز الحضرية للسلطة السياسية والإعلامية.
من خلال جلسات الاستماع العامة الثماني التي بُثت في عام 2002، سرَدت لجنة الحقيقة والمصالحة قصة هذه الانتهاكات ليست كشأن خاص فقط بأولئك الذين يعيشون في المناطق المتُضررة ولكن لجميع بيرو. جعلت هذه الجلسات قصص الضحايا من المستحيل تجاهلها وصَعّبت إنكارها حتى لأولئك الذين يرغبون في ذلك.
قالت صوفيا ماشر، أحد مفوضى لجنة الحقيقة والمصالحة: "لم نُحقق في جلسات الاستماع العامة، جمعنا 70000 شهادة، ولكن لم يقدم كل شخص أمام الجمهور، وبالنسبة لنا كانت اللحظة عندما دعت الدولة هؤلاء الضحايا واستمعت لهم لحظةً خاصة جداً. خلال الصراع أُنكر قِسْمَة الضحايا، وكان السياسيون والجيش يقولون طوال الوقت أنّ كل شيء تحت السيطرة وأنه لا يوجد ضحايا. يُعاني الضحايا أكثر إن أنكرت معاناتهم". مضيفة: "إنّ جلسات الاستماع العامة كانت خصيصة لأجلهم: للضحايا واستعادة كرامتهم. كانت تلك الحقيقة خاصة بهم، ما يشعرون به، ما يعتقدون، وكيف يفهمون ما حدث لهم. الهدف الآخر من جلسات الاستماع العامة هو إحداث تأثير على المجتمع ودفع المجتمع إلى تغيير نفسه".
كندا: استعادة الهوية
في كندا، سعت لجنة الحقيقة والمصالحة في البلد إلى معالجة الاستيعاب القسري للسكان الأصليين، ولا سيما نظام المدارس الداخلية الهندية . كان هدف النظام: "قتل الهوية الهندية في الطفل". تم أخذ أكثر من 150000 طفلاً من أسرهم ومجتمعاتهم ووضعهم في نظام المدارس الداخلية. بينما هم هناك، حُظر عليهم التحدث بلغاتهم الأصلية أو ممارسة تقاليدهم الثقافية وكثيراً ما تعرضوا للإيذاء البدني والجنسي والعاطفي. أدت هذه السياسة إلى تدمير مجتمعات السكان الأصليين و تسببت في صدمات مباشرة وعابرة للأجيال على الناجيين وأسرهم، مما أدى إلى وجود عدد كبير من حالات الانتحار والإدمان على الكحول والعنف الأسري.
بسبب هذه الطبيعة الثقافية المُكثفة للانتهاكات التي كُلفت بمعالجتها، أَبرزت جلسات الاستماع العامة التي عقدتها هيئة الحقيقة والمصالحة تقاليد السكان الأصليين و تعبيراتهم الفنية. تم النظر إلى جلسات الاستماع العامة على أنها أحداث وطنية حيثما شَهد الضحايا علناً على الانتهاكات التي تعرضوا لها، وأتُيحت لهم الفرصة لحديثٍ مباشر مع ممثلي الدولة والكنائس التي نفذت هذه السياسة. أكثر من هذا، تم تصميم هذه الجلسات على أنها احتفالات بهوية السكان الأصلية التي كانت مستهدفة بالإبادة ودعت جميع الكنديين للاحتفال بهذا التراث الثقافي من خلال الاحتفالات والعروض الموسيقية والشعر والأفلام وغيرها من الأشكال الفنية. وبعيداً عن هذه الفعاليات الوطنية السبعة، التي عقدت بين حزيران / يونيو 2010 وآذار / مارس 2014، عقدت لجنة الحقيقة والمصالحة سلسلة من الفعاليات الإقليمية والمجتمعية، حيث أُتيح للضحايا فرصة للإدلاء بشهادتهم علناً.
قالت ماري ويلسون، مفوضة لجنة الحقيقة والمصالحة: "في إحدى أولى جلسات الاستماع التي عقدناها، أوجز زعيم بارز بارِع من السكان الأصليين شهادته أمام اللجنة بهذه العبارات:" أريد هويتي مرة أخرى ... هل أطلب الكثير؟". مضيفة: "في كل مكان ذهبنا إليه، من الساحل إلى الساحل، على الأقل نصف الناجين الذين تحدثوا إلينا قالوا أن إعادة ربطهم مع ثقافتهم وهويتهم هو مفتاح شفائهم على وجه التحديد. والمفتاح، كما صاغوه في كثير من الأحيان، وسيلة للعثور على طريق إلى ديارهم".
### تونس: مشاهدة انفراج التغيير الاجتماعي
في تونس، يدمدم زلزال جلسات الاستماع العامة: من المقرر أن تستمر في الأشهر المقبلة، مع جلسة خاصة متزامنة مع اليوم العالمي للحق في معرفة الحقيقة في 24 مارس.
بينما عشرات الآلاف عبر تونس والعالم يترقبون جلسة استماعٍ يتبادل فيها الضحايا قصصهم قِبل هيئة الحقيقة والكرامة، لدينا فرصة فريدة لاستكشاف تأثير جلسات الاستماع العامة في الوقت الحالي. جلس مدير برنامج التواصل في المركز الدولي للعدالة الانتقالية رفيك هودجيج مع امرأتين كان عملهما حاسماً في نجاح الهيئة - بتهال عبد اللطيف من الهيئة وسلوى القنطري مديرة مكتب المركز الدولي للعدالة الانتقالية في تونس - لمناقشة الاستخلاصات من العملية حتى الآن.
تعتبر جلسات الاستماع العامة احتفالاً مُلائِماً لهذا الحق في معرفةِ الحقيقة، موضحةً قدرتها على إعطاء المجتمع الإجابات التي يتوق إليها. قالت القنطري: " كانت جلسات الاستماع العامة حاسمة جداً لأنه في اضطرابات بعد الثورة كل شيء تبدل رأساً على عقب. لدينا دستور جديد والناس في الشوارع، تغير كل شيء في فترة قصيرة جداً. لذلك أعتقدُ أن الناس بحاجة إلى الاجتماع معاً وسماع بعضهم البعض ".
الحوار كاملاً هنا.
*الصورة: ضحايا يدلون بشهادتهم خلال جلسة الاستماع العلنية الأولى لهيئة الحقيقة والكرامة في تونس. (TDC)*