*يستمر النقاش المستمر حول إذا ما كان تذكر الماضي المضطرب يعرقل المصالحة. افتتحت الحوار مارسي مورسكي، مديرة البرامج بالمركز الدولي للعدالة الانتقالية بمقالة: من يقرر التذكر أو النسيان؟ ، تبع ذلك توضيح بابلو دي غريف لموقفه بعنوان: عدم تذكر الماضي يولد الخوف والتلاعب ، وتوضيح ديفيد ريف لموقفه بعنوان: التذكر حليف العدل ولكن ليس صديقا للسلام .
بدأ دي غريف الجولة الثانية من النقاش بردٍ على مداخلة ريف الأولى تحت عنوان واجب التذكر ، ثم برد من ريف على مداخلة دي غريف الأولى: الذكرى الجماعية أيديولوجية وليست محايدة . هنا تعلق اليزابيث أوغلسبي على الجدل الدائر بين الطرفين. *
بقلم اليزابيث أوغلسبي
هذا النقاش حول العلاقة بين التذكر والمصالحة محل اهتمام أساسي لطلاب وباحثي وممارسي العدالة الانتقالية. شكرا للمركز الدولي للعدالة الانتقالية.
من المهم توضيح كيفية استخدامنا لمفاهيم التذكر الجماعي والمصالحة. فيما يتعلق بالتذكر، يبدو أن المشاركين في هذا النقاش أن متفقون على أن الذاكرة الجماعية متنازع دوما عليها. معانيها ليست ثابتة. في الواقع، كما جادل ديفيد ريف، فإن الذاكرة الجماعية، على هذا النحو، لا وجود لها. ومن ثم فمن المفيد تأطير النقاش حول مشاريع الذاكرة الجماعية، والتي هي دائما غير مكتملة ويُبطش بها من خلال علاقات السلطة. شُغْل عالمة الاجتماع الأرجنتيني إليزابيث جيلين على "عمل الذاكرة" مفيد في هذا الصدد. عناصر معينة ( تدعوهم جيلين "متعهدي مشاريع الذاكرة") تبني مشاريع الذاكرة في ملابسات وسياقات مختلفة.
من الأهمية بمكان أن نفهم من يتبنى مشروع ذاكرة جماعية في وقت ومكان ما. ما الذي يحفزهم، وما الذي يسعون إلى تحقيقه؟ عن طريق طرح هذه الأسئلة الملموسة يمكننا الدخول في نقد مُتَطلّب لمشروعات الذاكرة، حتى ونحن ننقد النسيان.
يعطينا ريف توبيخا شاملا ل "الحركة المعاصرة لحقوق الإنسان"، لما يسميه "الاعتقاد الراسخ" بشأن الضرورة السياسية والمعنوية للتذكر (وهو إلى حد ما أكثر إقناعا في أعماله الأطول). ومع ذلك، فإن فكرة أن من الأفضل أن نتذكر ليست بديهية في كثير من الأماكن. إنها ليست فكرة مسلم بها ولكن نتيجة لصراع اجتماعي.
أي تحليل لمشاريع الذاكرة لابد أن يكون مدفوعا بالسياق. ليس من الممكن مساواة قوة الولايات المتحدة في ارتداء ثوب الضحية في جميع أنحاء العالم بعد 9-11 (هنا أتفق مع ريف على الحاجة أكثر ل "نسيان" جماعي) بنضالات مكافحة الهيمنة لضحايا الدكتاتوريات في أمريكا اللاتينية أو إسبانيا للحصول على المعلومات والاعتراف. في تلك الأماكن، التذكر يتشكل حول استعادة الحد الأدنى من الكرامة للضحايا، بينما إحداث أثر يذكر في "الرواية الرسمية" يكشف القمع ربما يكون انتصارا.
المصالحة هي أيضا مصطلح متنازع عليه، وفي العديد من السياقات مصطلح فَقَد مصداقيته. في الحالات التي لم يعقب العنف السياسي تغيير مؤسسي واسع، في كثير من الأحيان يمكن أن يقع عبء "المصالحة" على الضحايا الذين قد يُطلب منهم أن يعفوا، أو حتى "أن ينسوا" ( كما لو كان ممكنا )، حفاظا على تقارب سياسي أو مجتمعي هش . بالتعاقب، مشاريع الذاكرة الجماعية المُحدثة تحت راية المصالحة قد يكون من الصعب جدا الإجماع عليها. هذا يمكن أن ينتج مفهوما للمصالحة ضحلا وخارج السياق التاريخي وقد لا يفعل شيئا يذكر لمعالجة عدم المساواة عميقة الجذور.
يشير بابلو دي غريف إلى أن القضية المطروحة ليست ما إذا كان الأفراد سوف يتذكرون التجارب المؤلمة (بِجَلاَء، سوف يتذكرون)، ولكن ما إذا كان سيكون هناك اعتراف عام بالانتهاكات التي تعرضوا لها. وتُركز مناقشته للذاكرة الجماعية على المشاريع "الرسمية" مثل لجان الحقيقة. كما يؤكد دي غريف، يمكن للجان الحقيقة أن تلعب دورا رئيسيا في السياقات الانتقالية وذلك لأنها في كثير من الأحيان تقدم السردية الأكثر شمولية للفظائع الماضية، استنادا إلى المعلومات المستقاة من الأطراف المتعددة للصراع. بواسطة جعل هذا التاريخ "رسميا" تقدم لجان الحقيقة دعما معنويا هاما للضحايا ومنظمات حقوق الإنسان الذين تم إسكاتهم أو تهميش أصواتهم.
ولكن أريد أن أن أدفع قليلا ضد حجة دي غريف أن لجان الحقيقة هي الشكل الأكثر ملائمة لمشاريع الذاكرة الجماعية لأنها غير متحيزة ولا "مستغلة" للماضي. كل مشروع للذاكرة بطريقة أو بأخرى لديه شكل من الاستغلال بتحديد ماضي "صالح للاستعمال"، حتى لجان تقصي الحقائق المرتبطة بالسياقات الانتقالية لبناء الدولة. وصحيح أيضا أننا لا نعرف ما يكفي عن حياة تقارير لجان تقصي الحقائق بعد انتهاء ولاياتها. أي أجزاء من تلك التقارير تكرر، وأي أجزاء تظل صامتة، ومن لديه سلطة اتخاذ هذا القرار؟ كيف يتم إنتاج مواد ثانوية، مثل المناهج الدراسية، من هذه التقارير؟ ربما ينبغي لنا أن ننظر إلى لجان تقصي الحقائق ليس لتُقدم نقطة لنهاية مسلم بها لعمل الذاكرة، ولكن كفرصة للتأمل النقدي المستمر.
وينبغي أن نتجنب الثنائيات بين مشاريع الذاكرة "الرسمية" و "غير الرسمية"، وكذلك بين عمل ذاكرة "جيد" و "سيئ". لا أعتقد أن هدف عمل الذاكرة يجب أن يكون إنتاج سرد وحدوي يمكن لأي شخص أن يتفق معه. أنا مقتنعة أكثر بحجة سوزان دواير أن ما يمكن واقعيا انتظاره من عمليات المصالحة هو تقبل مجموعة أوسع من الروايات عن الماضي.
مصطلح آخر علينا أن نضعه تحت العدسة الحرجة هو "السلام". يجادل ديفيد ريف أن التذكر "ليس صديقا للسلام" بسبب قدرته على إطالة أو تفاقم الصراع. وأعتقد أن هذا الارتباط مبالغ فيه. قد يزيد التذكر الصراع عنفا، ولكن أسباب هذا الصراع هي بالتأكيد أكثر تعقيدا. بالمقابل، توقع بناء مشاريع الذاكرة ل "ثقافة السلام" قد يكون طلب أكثر من اللازم، ولا سيما من دون التغيرات السياسية أوالاقتصادية أوالاجتماعية الأوسع نطاقا.
في أي حال، يجب ألا يعني السلام غياب الصراع. في سياق التحول السياسي، الشيء الهام هو عدم التطلع إلى القضاء على الصراع، ولكن التأكد من أن الصراع لم يعد ليؤدي لإراقة الدماء. إلى الحد الذي يمكن لاحتمال ارتباط مشاريع الذاكرة بدعوات العنف الانتقامية أو العسكرية، فهناك حق لإدانتها. ولكن "عمل الذاكرة" يمكن أيضا أن يفضح أعمال عنف تأسيسية أخرى لا يعترف بها دائما في اللحظات الفورية للانتقال، مثل عدم المساواة في نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا أوالاستعمار والاستيلاء المستمرعلى الأراضي الجاري للمايا في غواتيمالا.
محو أو تقليل أو إبطال هذه السرديات التي لا تعد ولا تحصى من النضال ليس الطريق إلى المصالحة الاجتماعية. هذا النوع من النسيان لا يظلم الماضي فقط؛ بل يمكن أن يؤدي إلى وصم أو تجريم الحركات الاحتجاجية المشروعة في الوقت الحاضر. في هذه الحالات، فإنه ليس التذكر الذي يجب التخلي عنه، وإنما فكرة السلام التي تبدو أكثر مثل التهدئة.
القضايا التي طرحها المركز الدولي للعدالة الانتقالية في هذا النقاش هامة. نحن بحاجة باستمرار إلى تفكير ناقد في العمل الذي تقوم به مشاريع الذاكرة، على يد من، وإلى ما تنتهي. ونحن بحاجة أيضا في تفكير ناقد في دعوات "النسيان".
اليزابيث أوغلسبي أستاذ مشارك للجغرافيا والدراسات الأمريكية اللاتينية في جامعة أريزونا، توكسون. كانت باحثة مع لجنة غواتيمالا لتوضيح الملابسات التاريخية في أواخر التسعينات. في منتصف الألفية، كانت عضو باحث في برنامج تاريخ وسياسة برنامج المصالحة في مجلس كارنيجي للأخلاقيات والشؤون الدولية . في عام 2013 شهدت كشاهد خبير في غواتيمالا خلال محاكمة الجنرالات خوسيه إفراين ريوس مونت وخوسيه موريسيو رودريغيز سانشيز بتهمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية. وقد كتبت على نطاق واسع في أعقاب التمرد في غواتيمالا.
*الصورة: : أسماء ضحايا معلقة على شجرة، برييدور، البوسنة والهرسك. (Lee Bryant/Flickr)*