بقلم روبن كارانزا، مدير برنامج العدالة الجابرة، المركز الدولي للعدالة الانتقالية
منذ سقوط ديكتاتورية بن علي في يناير 2011، اتخذت الحكومة التونسية سلسلة من تدابير جبر الضرر التي تقدم منافع اقتصادية وخدمات اجتماعية لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان المرتبطة بالقمع السياسي والاضطهاد الديني والاضطرابات الاجتماعية التي شهدها البلد فيما مضى. ومنحت تدابير الجبر المتنوعة الضحايا وأفراد أسرهم تعويضات مالية، وإمكانية الحصول على بعض أشكال الخدمات الطبية، والاستفادة من إعانات حكومية لاستخدام وسائل النقل العام، وفرص عمل في القطاع العام .
ولا شك في أن برامج جبر الضرر قد ساعدت أسر الضحايا على معالجة بعض النتائج المباشرة الناجمة عن الأضرار التي لحقت بها في عهد بن علي. فالمساعدة المالية المقدمة للأسر التي قُتل معيلوها أو أصيبوا بجراح خطيرة في احتجاجات "الربيع العربي" قد أُنفقت لتلبية الاحتياجات الأساسية. كما أن إمكانية الحصول على الرعاية الطبية (في المرافق الحكومية وحتى في دول أخرى) قد أنقذت حياة بعضٍ ممن أُصيبوا إصابات خطيرة وسمحت لهم باستعادة قدرتهم على مواصلة حياتهم اليومية.
وفي الأونة الأخيرة، أُتيحت بعض فرص العمل في الإدارات الحكومية لمن حُرموا في عهد الديكتاتورية من الحصول على التعليم العالي أو من الحق في ممارسة بعض المهن بما في ذلك أولئك الذين أُجبروا على مغادرة البلد أو طُردوا من المدارس أو الوظائف العامة بسبب أنشطتهم السياسية أو انتمائهم إلى حركات دينية.
بيد أن هذه البرامج واجهت أيضاً عدة تحديات. ففي بداية الأمر، ظهرت تحديات تعبّر عن التوترات القائمة في تونس بين الجهات السياسية الفاعلة، العلمانية والدينية، وتضمنت انتقادات مفادها أن هذه البرامج تُصمم أو تنفذ على نحو يحابي أنصار حركة سياسية معيّنة دون غيرها.
وتتواصل أيضاً التحديات الناجمة عن النهج المتبع في وضع سياسات جبر الضرر، الذي اتسم حتى الآن بكونه نهجاً يُحدد في كل حالة على حدة. وكانت النتيجة أن تعريف الضحايا والمستفيدين الذين يحق لهم الحصول على أشكال محددة من جبر الضرر قد جرى أحيانا استنادا إلى حلقات مختلفة ومحددة من تاريخ تونس ، بدلا من الاستناد في المقام الأول إلى أنواع انتهاكات حقوق الإنسان، وسمات الضحايا من حيث هويتهم الجنسانية أو وضعهم الاقتصادي أو الأذى الذي لحق بهم. فعلى سبيل المثال، عُرضت تعويضات وتدابير جبر رمزية على الجنود الذين احتجزوا وعُذّبوا بزعم مشاركتهم في مؤامرة براكة الساحل ضد بن علي.
وبعد منح تعويضات وإعانات أخرى لأسر الأشخاص الذين قُتلوا أو أُصيبوا بجراح في ثورة عام 2011 ، بادرت أسر عمال المناجم الذين قتلوا في جنوب البلاد على يد الشرطة أثناء الإضرابات التي نفذّوها في عام 2008 مطالبين بتحسين أجورهم وشروط عملهم (التي يرى الكثيرون أنها تمثل بداية الثورة) إلى الإعراب عن احتجاجها على استبعادها. فقبلت الحكومة واتخذت تدابير لجبر الضرر الذي لحق بتلك الأسر.
وفي وقت لاحق، وضعت الحكومة سياسة منهجية لمنح إعانات موحدة لجبر الضرر الذي لحق بالأشخاص الذين سجنوا في عهد بن علي لجرائم سياسية ثم أُعفي عنهم بعد الثورة؛ ولكن هذه الخطوة لم تبدد التوتر والتشرذم على الصعيد السياسي في البلد.
ولكن التحدي الأصعب في مجال صنع سياسات جبر الضرر في تونس ينبثق من الطابع المتداخل الذي اتسمت به الانتهاكات التي عانى منها عدد كبير من التونسيين في عهد الزعيمين السياسيين الوحيدين اللذين توليا الحكم في مرحلة ما بعد الاستعمار.
فالأساليب القاسية التي اتبعتها حكومة الحبيب بورقيبة لنشر العلمانية أدت إلى حماية حقوق المرأة ولكنها أدت أيضا إلى زيادة القمع السياسي وفرض قيود على حرية التعبير الديني. وفي عهد دكتاتورية بن علي، بات القمع السياسي يُمارس بشكل منهجي ويستند إلى سياسات الأمن الداخلي وتشريعات مكافحة الإرهاب المدعومة من الغرب.
وأدى ذلك إلى احتجاز الزعماء الدينيين ومنظمي النقابات والناشطين السياسيين اليساريين فترات طويلة ومتكررة، وتعذيبهم وإجبارهم على مغادرة البلد. وتداخلت هذه الانتهاكات مع غيرها من انتهاكات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والجرائم الاقتصادية التي مست بشكل رئيسي المجتمعات المحلية في المناطق الداخلية.
إن اقتران الفساد الواسع النطاق بالسياسات الاقتصادية الحكومية المدعومة من المؤسسات المالية الدولية قد همشّ بانتظام المناطق الداخلية في تونس وأتاح في الوقت نفسه محاباة أفراد أسرة بن علي وشركائهم التجاريين بمنحهم العقود الحكومية، أو القروض المكفولة حكوميا لمشاريعهم الخاصة في المناطق الساحلية، أو منحهم بشكل مباشر حق ملكية أراضٍ وممتلكات حكومية.
وتوضّح هذه الانتهاكات والأضرار المتداخلة سبب توجّه قانون العدالة الانتقالية في تونس إلى منح تدابير جبر فردية لضحايا الانتهاكات الماسة بالسلامة البدنية وتدابير جبر جماعية للمناطق المهمشة، وتوضّح أيضاً سبب تكليف "هيئة الحقيقة والكرامة" بالنظر في الجرائم الاقتصادية وجرائم الفساد إلى جانب انتهاكات الحقوق المدنية والسياسية.
ولذا فإن العقبة الكأداء التي ستواجهها عملية صنع السياسات المرتبطة بجبر الضرر في تونس ستتمثل في تحديد نطاق تدابير جبر الضرر الحالية، والتدابير التي ستوصي بها هيئة الحقيقة والكرامة، وقدرتها على معالجة هذه المظالم الأساسية التي أطلقت شرارة الثورة التونسية وأمدّتها بمقومات الاستمرار. فعلى سبيل المثال، لم يتبيّن بعد ما إذا كانت تدابير جبر الضرر ستعالج "الجذور المتشعبة" التي أدت إلى اندلاع الثورة، بحسب الوصف الذي استخدمته اللجنة الحكومية لتقصي الحقائق بشأن الانتهاكات المرتكبة في ثورة عام 2011، وهي: "القمع الممارس تجاه الشعب التونسي والفئات العليا في عهد بن علي؛ وعجز الحكومة عن تحقيق تكافؤ الفرص بين المواطنين والمناطق المختلفة (و) عجز المؤسسات الإدارية عن الاضطلاع بدورها الرقابي تجاه الانتهاكات غير المحدودة".
وفي عام 2013، نظم برنامج العدالة الجابرة الذي نفذه المركز الدولي للعدالة الانتقالية سلسلة من الحوارات في تونس العاصمة وفي مدينتي توزر وتطاوين الواقعتين في المناطق الداخلية (بمشاركة أشخاص من جميع الولايات المجاورة في المنطقة، بما في ذلك قصرين وسيدي بوزيد وصفاقس وقفصة ومدنين وقابس) لتيسير المناقشات بين الحكومة والمجتمع المدني (بما في ذلك الاتحاد العام التونسي للشغل) ، وممثلي المجتمعات المحلية التي تعتبر نفسها من ضحايا القمع السياسي والتهميش الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة. ويتجلى بوضوح أن بعض التدابير الفردية جاءت استجابة للانتهاكات التي تعرض لها أولئك الذين احتُجزوا وعُذِّبوا، أو أُجبروا على مغادرة البلد، أو عانوا من أشكال أخرى من الاضطهاد لأسباب دينية أو سياسية.
بيد أن المجتمعات المحلية في المناطق الداخلية التي عانت تاريخياً من التهميش الاقتصادي والاجتماعي، والمواطنين الشباب والعاطلين عن العمل الذين خرجوا في جميع أنحاء البلد في عام 2011 يطلبون العمل والكرامة والإطاحة بالدكتاتورية ما زالوا ينتظرون نوعاً من تدابير جبر الضرر التي ستعالج تلك المظالم ذات النطاق الأوسع. ولقد تكلمنا في الفترات الفاصلة ما بين جلسات الحوار مع تونسيين من المناطق الداخلية أخبرونا بما عانوه في عهد الدكتاتورية، وأبدوا لنا وجهات نظرهم عن التهميش، وتوقعاتهم من تدابير جبر الضرر.
يمكنكم هنا مشاهدة شريط فيديو يتضمن شهادات أدلى بها ضحايا القمع السياسي والتهميش الاقتصادي والاجتماعي الذين شاركوا في حلقات الحوار التي أجراها المركز الدولي للعدالة الانتقالية في تونس العاصمة وتوزر وتطاوين في عام 2013 (الجزء1 و الجزء 2).
الصورة: رجل تونسي في وسط مدينة صفاقس، تونس، يمرّ أمام ملصق جداري للرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي وقد مُزّقت أجزاء منها. 31 مارس 2011. (إميليو موريناتي / صور آسوشييتد برس)