مقاربة رقميّة جديدة للتّوثيق والمناصرة في شأن حقوق الإنسان في ليبيا واليمن

27/09/2024

يؤثّر التحوّل الرقمي المطّرد، الذي يشهده العالم، تأثيرًا بالغًا في عمل المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة وغيره من المنظّمات والجهات الفاعلة المعنيّة بحقوق الإنسان. يُصاحب هذا التحوّل فرص وتحدّيات جمّة. فمن جهة، يُزيل هذا التّحوّل عقبات كثيرة تتعلّق ببُعد المسافة، فيُيسّر مشاركةً وتعاونًا أوسع. ومن جهة أخرى، يتيح كميّات هائلة من المعلومات والتّقنيات التكنولوجيّة المبتكرة، التي قد تساعد المدافعين عن حقوق الإنسان مساعدةً لا حدودَ لها، طالما أنّ في مقدورهم الوصول إليها واستخدامها بشكلٍ مجدٍ. ومن هذا المنطلق نفسه، يفرض هذا التحوّل تهديدات أمنيّة وعوائق جديدة أمام السّعي إلى تحقيق المحاسبة، وإنشاء السرديّات الشرعيّة، وصون الحقوق والحيّز المدنيّ.

في هذا الوقت، من الأهميّة بمكان أن تُطوّر أدوات واستراتيجيّات رقميّة من أجل توثيق انتهاكات حقوق الإنسان، وتحليل البيانات والمعلومات لغاياتٍ تخدم المحاسبة وجبر الضّرر، إضافة الى وضع شركات التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا موضع المحاسبة، وتمكين مناصرة حقوق الإنسان بأمان عبر الانترنت. وينطبق ذلك تحديدًا على السياقات حيث يعيش الضحايا والفاعلون في مجال حقوق الإنسان والإعلاميون في خوف، أو، إن لم يكُن الأمر كذلك، فَيعيشون في خطر داهم.

لذا، أطلق المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة مبادرات من شأنها أن تستقي الاستفادة القصوى من التقنيات التكنولوجية المتقدّمة وأن تزوّد الضحايا والناشطين والصحافيين بأدوات تخوّلهم الوصول إلى معلومات حسّاسة كما تزوّدهم بحيّزٍ يتيح لهم إقامة التعاون. فقد قاد المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة دورات تدريبيّة موجّهة لناشطين في مجال حقوق الإنسان في مناطق متأثّرة بالنزاع، حول تقنيّات التحقيق مفتوحة المصدر، وذلك من أجل تمكينهم من توثيق انتهاكات حقوق الإنسان والتّحقيق فيها على نحو مجدٍ أكثر.

نظّم المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة، في العام 2023، دورة تعليميّة تمهيديّة حول التّحقيقات الرّقمية مفتوحة المصدر، مُخصّصة لِناشطين يمنيين وليبيين في مجال حقوق الإنسان. ثمّ قدّم، بعد مرور سنة، دورتَيْن تدريبيّتَيْن متقدّمتَيْن للناشطين الذين يرصدون أوضاع حقوق الإنسان، ويوثّقون الانتهاكات، ويتحقّقون من صحّة المعلومات، كلٌّ في موطنه.

وقد خضع المشاركون، الذين اختيروا بالتعاون مع شركاء المركز الدّولي للعدالة الانتقالية في الميدان، لتدريب على كيفيّة إجراء هذه الأنواع من التحقيقات. فتعلّموا التخطيط لهذه التحقيقات وكذلك توظيف وسائل التواصل الاجتماعي وأدوات تحديد الموقع الجغرافي وأدوات أخرى في تنفيذها. وقد نُظّمت الدورات التّدريبيّة بالتعاون مع مركز حقوق الإنسان في جامعة كاليفورنيا-بيركيلي.

في هذا الصّدد، تشرحُ ريم القنطري، مديرة برنامج المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة في ليبيا، أنّ "هدف هذه الدورات التدريبيّة لا يقتصر على بناء قدرات الناشطين المحليّين. فنحن نعمل أيضًا على انشاء نواة للخبراء الناطقين باللّغة العربيّة."

وقد شمل هذا التّدريب المتقدّم، الأوّل من نوعه، دروسًا نظريّة وتطبيقيّة، وتخلّله عمل، ضمن مجموعات، أتاح للمشاركين توسيع معارفهم حول التّحقيقات الرّقميّة وحولَ كيفيّة استخدام البيانات مفتوحة المصدر. فنظرت كلّ مجموعة، على حدة، في دراسة حالةٍ حدّدها المُشاركون والخبراء معًا، وأجرَت فيها تحقيقًا عبر توظيف الأدوات والمهارات المُكتسبة خلال الدّورة التعليميّة؛ وذلك بدءًا من التّخطيط حتّى التّقييم والتّحقّق. ثمّ عرضَت المجموعات أعمالها واستنتاجاتها في اليوم الأخير.

وبحسبِ القنطري فإنَّ "المشاركين صقلوا مهاراتهم في كلّ مرحلة من مراحل النّشاط. وقد أظهرَت عروضهم الختاميّة أساليبهم في إعداد التّقارير، وعكسَت شخصيّاتهم وخبراتهم الفريدة." حتّى أنّ مجموعةً، أطلق أعضاؤها عليها اسم "فريق العدالة"، قد أنتجت فيلمًا قصيرًا لعرض الاستنتاجات الّتي توصّل إليها.

تلت هذه الدّورة التعليميّة، جلسة تدريب للمدرّبين، تعلّم المشاركون الليبيّون خلالها طرق تعليم التّحقيقات الرّقمية مفتوحة المصدر للآخرين. وقد ركّزت الجلسة على التّقنيّات التربويّة والمقاربات الرّامية إلى إشراك المُتعلّمين الكبار في الأنشطة، وكذلك على منهجيّات التّقييم والاستراتيجيّات الآيلة إلى تعزيز بيئة تعلّم مهنيّة ومحترمة. هذا وقد نفّذ المشاركون تمرين محاكاة أُعِدّ لترسيخ فهمهم لِعناصر هذه التّحقيقات الخاصّة.

في ختام جلسة تدريب المدرّبين، طُلب إلى المشاركين أن يكتبوا تقييمًا ويقدّموه لاحقًا، على أن يُضمّنوه خطّةً لشرح درسٍ عن عنصر من عناصر التّحقيقات مفتوحة المصدر. كما طُلب إليهم أن يحضّروا تعليقًا على الملحق المرفق بقرار محكمة العدل الدّوليّة في دعوى جنوب أفريقيا على إسرائيل، الذي أعدّته المجموعة البحثيّة فورينسك آركيتيكتشر(Forensic Architecture) باستخدام المصادر الرّقميّة المفتوحة.

وقد صرّح أحد المشاركين اللّيبيّين قائلًا: " ورشة العمل حول التحقيقات الرقمية في المصادر المفتوحة كانت ذات فائدة كبيرة لي على عدة مستويات. يساهم هذا النّوع من التّدريب بشكل مباشر في تحسين جودة التقارير والتوثيقات المتعلقة بقضايا حقوق الإنسان. ويُحسّن قدرة الأفراد والمُنظّمات على كشف الوقائع والتّعامل مع الأخبار الزّائفة والانتهاكات، وهو ما يُساهم في تحقيق الشّفافيّة والمحاسبة."

مجموعة من الأشخاص يجلسون على الأرض في غرفة ويتعاونون في نشاط جماعي.
 مشاركة (الوسط) في التدريب المتقدّم على التحقيقات مفتوحة المصدر الموجّه للناشطين والصّحافيين الليبيين والتونسيين، والمنعقد في العاصمة تونس في تمّوز/ يوليو من العام ٢٠٢٤، يتلقّى شهادة إكمال التدريب.

هذا وقد نُظّم تدريب متقدّم آخر في اليمن من أجل تعزيز قدرة منظّمات المجتمع المدنيّ المحليّة ومجموعات الضّحايا، وتحسين موقعها لتمكينها من تأدية دورٍ مجدٍ في أيّ عمليّة عدالة انتقاليّة اشتماليّة في المستقبل. وحضر هذه الجلسة 16 ممثل عن منظّمات المجتمع المدنيّ ومجموعات الضّحايا التي تعمل على توثيق الاعتداءات على حقوق الإنسان في مختلف محافظات البلد. وكما التّدريب المُتقدّم الذي أقيم في العاصمة تونس، كذلك هذا التّدريب سعى إلى صقل مهارات المشاركين في التّوثيق وتحليل المعلومات.

وأوضح مشارك يمنيّ أنّ "في ظل النّزاعات وفي بيئة عالية المخاطر حيث غالبًا ما تعيق تحديّات العمل الميداني وصعوبات الوصول والحركة، تُعدّ مهارات [التّحقيق الرّقميّ] هذه قيّمة جدًّا. فنحن، الناشطين والمدافعين عن حقوق الإنسان، تمثّل لنا هذه الوفرة من المعلومات والمصادر تحدياً جديداً يتمثّل في الحصول والوصول إلى معلومات دقيقة موثوقة ومتقنة التوثيق، من شأنها تعزيز آليّات حماية حقوق الإنسان، وتحقيق المحاسبة والحد من الإفلات من العقاب."

ثمّ أردف قائلًا: "في سياقات معقّدة وحالات الاصطفاف الحاد كما هو الوضع في اليمن، تُفاقم المعلومات المضلّلة والمتحيّزة تعقيد عملنا. وعليه، فإنّ بناء قدراتنا في استخدام هذه المنهجيّات الجديدة في الرّصد والتّتبّع وجمع المعلومات، يُعدّ في منتهى الأهميّة."

وفي هذا الصّدد، قالت نور البجّاني، مديرة برنامج المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة في اليمن، إنّ "هذه الدّورات التّدريبيّة حثّت المشاركين على التّفكير بموضوعيّة وعلى النّظر في جميع الإمكانات المُتاحة أثناء إجراء التّحقيقات، وهذا ما أصقل مهاراتهم التّحليليّة. فهي لم تُعرّف المشاركين على الأدوات الرّقمية لجمع البيانات مفتوحة المصدر والتّحقق منها فحسب، بل أكسبتهم الطّمأنينة لتوظيف هذه الأدوات في رصدهم الاعتداءات على حقوق الإنسان، وهذا هو الأهمّ."

يعتزم المركز الدّوليّ للعدالة الانتقاليّة مواصلة هذا العمل وتقديم المزيد من الدورات التدريبيّة في سبيل تشكيل فريق من المحقّقين في المصادر المفتوحة النّاطقين باللّغة العربيّة، وذلك بغية ضمان فهم السّياقات واللّغات ودقائق الفروقات المحليّة، واحترامها في عمليّة التّوثيق والتّحقيق. ومن شأن هذه المقاربة أن تُمكّن منظّمات المجتمع المدني ومجموعات الضّحايا المحليّة من تحسين أدائها في توثيق انتهاكات حقوق الإنسان والتّحقيق فيها، ومن حفظ الأدلّة الّتي تجمعها، ومن دفع المحاسبة والعدالة قدمًا حتّى في أكثر السّياقات تحديًّا.

وبحسبِ براين نغوين، مدير التّدريب على التّحقيقات مفتوحة المصدر في مركز حقوق الإنسان في بريكيلي، فإنّ "توطين القدرة على إجراء هذه التّحقيقات [مفتوحة المصدر] تسمح للمحقّقين والصّحفيّين والباحثين والمناصرين بممارسةِ تأثيرٍ أكبر في القضايا الّتي تعني لهم أكثر من سواها، وذلك من دون أن يكونوا مدينين لدعم الحكومات والمنظّمات الغربيّة من أجل تنفيذ هذا العمل. فالعمل الذي نقوم به مع المجتمعَيْن المدنيَيْن اليمنيّ واللّيبيّ – إن أثبت نجاحه- يصلح أن يكون مثالًا تحتذي به مناطق أخرى حول العالم."

__________
الصورة: مشاركون في التدريب المتقدم على التحقيقات مفتوحة المصدر المخصّص للناشطين اليمنيين، والمنعقد في — تمّوز/ يوليو من العام ٢٠٢٤، يتعاونون على العمل ضمن مجموعات.